لازلتُ حديثة العهد بقيادة السّيارات ولم أجلس خلف المقعد طوعًا، أجوب الطرقات والشوارع بخجلٍ حينًا وبالضّياع أحيانًا. أرتقي بالتحدّيات وصعوبة القيادة في أماكن معيّنة تدريجيًا، حتى بلغ التحدّي منتهاه حينما قرّرت أن أقود إلى عكّار، ببنين تحديدًا. السّبب: مناسبة اجتماعية عائلية.
المغامرة بدأت من جانب المحجر الصحّي قرب نهر أبو علي إلى دوّاره ثمّ البدّاوي، ليتزامن هطول “سحاحير” الخضار الفارغة من “بيك أب” تسبقني بسيّارتين مع صعودنا إلى الجسر. حمدتُ الله مرارًا وتكرارًا لنجاة السائقَين أمامي، وتابعت القيادة بقلبٍ مطمئن، أغمس نفسي بين حشود السّيارات وكأنّ الحوادث لا تعنيني. “تحصّنت بذي العزّة والجبروت وتوكّلت على الحّي الذي لا يموت” رددّتُها بإيمان من يذهب إلى المعركة ذات عصر. “خلّيكِ على الشّمال! أوعى تسوقي على اليمين! لأن كلّو بيخالف!” كانت هذه من أهمّ النصائح التي أُسديت إليّ ولم أُدرك قيمتها الفعليّة إلاّ عندما وصلتُ الى المنية!
ألتفتُ يمينًا فأرى السيارات مخالفة التيّار تتدفق حتى ظننتُ بأنني على الجهة الخاطئة من الطريق! والدتي بقربي تُتَمتِمُ دعاءً خافتًا تصلني قوة رجائه فأفهم أنّها مضطربة أكثر مني، وعلى المرآة الأمامية ألمح طيف أختي في الخلف تحاول أن تكون المرآة الرّابعة لرُبّما فاتني أن أنتبه إلى جهة معيّنة، ترتقب مفاجأة ما، تحاول أن تجنّبَني الكوارث المروريّة خاصّة مع سيل الدرّاجات النّارية الصّغيرة وركّابها الأصغرعُمرًا التي تشقُّ طريقها في الزحام بكامل الثقة والعشوائيّة.
الوقوع في الحُفر يُشبه كثيرًا الوقوع في الحُبّ. كل ما يقتضي ذلك هو خُطوة واحدة صغيرة مندفعة غير مدروسة، كفيلة بجعلك تهوي وتفقد السّيطرة على نفسك/ سيارتك حتى تجدك في القعر غارقًا متقوقعًا، لا تدري كم من الوقت والجهد ستحتاج للخروج من هذه العلاقة/ الحفرة لتعود إلى سابق عهدك، إلى المسار الصحيح… الحُفر لمن لم يختبر الطريق قبلًا فخاخٌ نُصِبت، كالعلاقات العابرة، فهنيئًا لمن استطاع تفاديها…
كم بدت لي المنية كبيرة! وكم طال المشوار! وكم تختلف الرؤية بحسب موقعك في الحياة! في الماضي كنتُ أستمتع بقراءة اليافطات المعلّقة المترامية على أطراف الطريق، ألتقطُ صورًا لما يسترعي اهتمامي، واليوم غابت عني تلك الملذّات تمامًا حتى كدتُ لا أراها. القيادة مسؤولية خطيرة لذلك لا يجب لأي شيءٍ في دربك أن يُثنيك عن بلوغ هدفك، عليك أن تبقى يقظًا لتنجح وتُدرك غايتك، وإن كنت هنا أتحدث عن قيادة السيّارة فذلك ينطبق حرفيّا على أي موقعٍ قيادي آخر.
تهلّل وجهي لرؤية نصب شهداء الجيش على دوّار العبدة، وما هي إلّا ثوانٍ حتى وصلت إلى مفرق ببنين. في طريقنا صعودًا، لفت نظري يافطات معدنية جديدة غُرست على جانبي الطريق من قبل البلدية الحالية لتسمية الأحياء. أحببتُ هذا التحسين بالاضافة إلى توسيع لا بأس به بعرض الطريق، وعمل لافت لتحديث الأرصفة. أسعدني ذلك حقًاٍ، فببنين هي بلدة أكثر مما هي ضيعة من حيث المساحة والتعداد السّكاني. حزنتُ أن لا يد لي في كل هذه التطوّرات وذلك لأنني لم أنتخب بلديًا الدورة السابقة. كان هذا الأمر يهم الوالد حقًا، وبغيابه لم يعُد يعنيني ذلك أبدًا. أذكر تمامًا أنه رحمه الله من مفرق ببنين وحتى بيتنا، كان الناس يُلقون عليه التحية، سلامات حارة وزمامير، وإن تجرّأتُ مرّة لأسأله من فلان؟ يغضب بحماوة الدّم العكاري الذي ينبض به ليقول:” ما عرفيته؟ فلان ابن أبو فلان!” وفي معظم الوقت لم أكن أعرف ذلك الفلان ولا أباه مطلقًا، أدعّي رجوع الذاكرة إليّ وأصمت. لم أتخيّل يومًا أن كل تلك الذكريات ستطاردني في الطريق.
أقف جانبًا لأسمح لتراكتور بالمخالفة، يفرح هو بذلك ويرفع لي يده مرسلًا تحيّة شُكر. ألمح مقبرة العائلة على اليسار، أغمزُها فتفهم أن لقاءنا سيكون في طريق الرجعة. تلوح في الأفق محطّة عمي بوخضر فأعلم أنني وصلت. أتنفس وأختي ووالدتي الصّعداء وأنزل من السيّارة لأصلح قليلًا من شكلي. ألتقطُ أنفاسي وأُجفف عرقي الذي تصبب بغزارة من استيقظ من حمى. في طريق العودة عرّجنا على الوالد، أخبرته سرًا بإنجازي بعد أن قرأت له الفاتحة. لم يقُل شيئًا حقًا، لكنني شعرتُ بلطف صمته العاصف بفخره بي. سأراك أكثر بابا، وتركتُ له قُبلة حارّة على قبره ومضيت…
يمن غازي مرعبي